فنانو الاهوار: ذاكرة شعب

art

 

عبر التأريخ، وثق الفنانون عن الاحداث الرئيسية والمفصلية من عصرهم بالرسم والنحت، وازدادت هذه الظاهرة لاحقاً خلال القرن التاسع عشر ثم أصبحت جانباً رئيسياً من القرن العشرين الذي تميز بالحروب والهجرات العرقية والسياسية.

ومنها الهجرة الأهوارية، نادرًا مايتم مناقشة الهجرة الأهوارية، بل ولا تتعد احيانًا اعلام المجتمع المحلي. ففي بلدٍ مزقته الحروب، تستمر الهجرة ولا تروى على لسان اصحابها، ولذلك تستحق الهجرة الأهوارية ان يسلط عليها الضوء، على التجربة الحية لشعبنا الذي يعيش قرن من العنف الدموي.

تعرف الهجرة الأهوارية على أنها نتيجة حتمية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي شكلت علاقة الدولة العراقية مع الأهوار وشعبها، وفي نظرة لأزماتنا وقراءة تأريخنا، علينا النظر للنشاط الابداعي الذي وثق وعبر عن مراحل حاسمة في تحولاتنا الثقافية والاجتماعية، هاجر الأهواريون منذ اوائل القرن العشرين في موجات عديدة، اولها في عهد الملكية العراقية حتى نهاية الأقطاع، ثم في الحرب الايرانية-العراقية، وثم في مابعد الأبادة والتهجير القسري بعد العام ١٩٩١ ، ولاتزال الهجرة مستمرة الى الآن في السنوات الأخيرة، بسبب خطط التدمير التي تنفذها الحكومة، تمديد الحدود العسكرية، تجفيف الاراضي لصالح الشركات وحبس المياه لصالح المناطق المركزية في العراق وايران.

ومن الرسامين الذين رسموا هذه الهجرة ثلاث فنانين قد انتهى بهم المطاف في الشتات بعيداً عن الأهوار في غربة ثانية، وهم ماهود احمد، وعامر بدر، وصادق كويش، في كل لوحة من لوحاتهم قصة، وبينما يتجاهل العالم تلك الرواية، تبحر اللوحات في بحر من التفاصيل والرؤى الثاقبة للماضي ولعالمٍ لم نعشه، انعدام العدالة والحنين، وفي الوقت ذاته جمال جنة عدن التي تم نفيهم منها.

ماهود احمد

ولد ماهود احمد عام ١٩٤٠ في هور الحويزة في العمارة في وقتٍ كان فيه النظام الأقطاعي يتسيد على أكتاف الأغلبية في اقطاعيات الجنوب، هاجر ماهود الى بغداد وهناك اكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وفي عام ١٩٦٧ نال شهادة الماجستير في الفنون من معهد سوريكوف بروسيا، وبعدها حصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة الفن من المعهد العالي للدراسات النظرية في موسكو، ما تعلمه من مدرسة الرسم الثوري الروسي “الواقعية الاشتراكية” حاول أن يوظفه بأسلوب تغلب عليه الواقعية الأسطورية، وبالطبع ليس فقط لوحات الهجرة، لقد سعى الفنان إلى أن يثبت أن ما يراه مجسدا في الواقع هو صورة عن حلم مستعاد لكل الأهوار، اساطيرها، ناسها، تقاليدها، مآسيها، وطبيعتها.

mahood ahmed
Motherhood (1976) by Mahood Ahmed is in the collection of the State Museum of Oriental Art in Moscow. The State Museum of Oriental Art

 

كان ماهود يقول:“ أحاول التعبير عن الأحداث من خلال الأساطير بروح عصرية فأذكر مقومات شعبي وحياته وتضحياته ليس بشكل مباشر وإنما بشكل رمزي وكأننا لا نتعامل مع البصر وإنما تكون البصيرة هي القائم المشترك بيننا وبين شعبنا”، أدمج ماهود الأساطير القديمة بلوحاته عن الأهوار، تارةً كقصص وتارةً كرمزيات تجدها عندما تتمعن في تفاصيل اللوحة، كان ماهود الملقب بفتى الأهوار يرسم ثقافته التي على وشك ان تكون طي النسيان، ورحل عن الحياة دون ان تعود ارضه كما كانت يومًا.

the farmers return
"The Farmers’ Return” Mahood Ahmed.

"عودة المزارعين" هي لوحة لماهود احمد تحكي فصلاً من الهجرة الأهوارية، فبعد ان امتلأت المدن الكبرى بالهاربين من النظام الأقطاعي، اقرت الحكومة قوانينًا لأعادة السكان للريف، حيث تنعدم سلطة القانون ويعود السكان الى بيئة اقتصادية هشة تنكسر في كل ازمة سياسية، يرينا ماهود، وجوه المهاجرين الى وجهةِ غريبة، "بغداد"، عالم مختلف عن ما اعتادوه، مختلف عن حياتهم تحت سوط الأقطاع والقوانين العرفية للقبائل التي قد سلمتها الدولة السلطة جزئيا على كونفدرالياتها الصغيرة.

في اللوحة ايضًا، تظهر السجادات المحاكة تقليديًا، وجوهٌ فيروزية اللون تبدو بأنها اسلافٌ يراقبون القافلة المتوجهة الى مصيرِ شاق بالمعاناة، وتمثالٌ لآلهة تحتضنها امرأةٌ تجلس على قارعة الطريق، لايغيب عن الامر حقيقة ان التمثال هو للالهة الأم وهي رمز الخصب والأمومة في بلاد الرافدين، رمزيتها في اللوحة لحفظ القافلة من الهلاك تعطي احساسًا عميقًا بالأرتباط الذي يراه ماهود في مجتمعنا الأهواري مع اسلافنا الرافدينيون، وشعورًا بأننا في أحلك منعطفات تأريخنا، قد جلبنا معنا تراثنا دون ان نتركه خلفنا، في ايدينا، كلماتنا، وارواحنا.

عامر بدر

عامر بدر هو فنان اهواري ولد في بغداد عام ١٩٧٥، درس الرسم في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٩٧، ثم أكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة في بغداد عام ٢٠٠١، هاجر إلى هولندا عام ٢٠١٠ حيث يعيش ويعمل  هناك، في معرضه الشخصي "حكايات جنوبية" في مدينة دنهاخ الهولندية قدم الفنان عامر بدر ١٦ لوحة تستعيد مقاطع من طفولته في الأهوار في الثمانينات، اثناء الحرب الايرانية العراقية (١٩٨٠-١٩٨٨) حيث أصبح الجنوب الخط الرئيسي لحربٍ طاحنة، "أتذكر الهروب إلى المجهول" يقولها عامر بدر في معرضه الذي يراكم أعمالاً تعكس جملة الاحداث التي عاشها الاهواريون، مشيراً في تقديمه إلى تحكّم الإقطاعيين بأراضي المنطقة وإنتاجها منذ مطلع القرن الماضي، وصولاً إلى الحرب، حيث جُفِّفَت مياه الأهوار كوسيلة لقمع التمرد الذي انتهى بالأبادة.

emigration
“Emigration” 100.100 oil on canvas 2021

يرسم عامر بالزيت لوحاته التي تخلد ماعاشه وما روته جدته فيما بعد، لايخفى بأن معظم الرسامين قد قاموا بالتركيز على نساء الأهوار على وجه الخصوص، ففي لوحاته يرسم النساء التي عرفهن في طفولته والنسوة اللواتي يجلسن في بيوت القصب منهمكات بأعمالهن، ومشاهد التهجير المؤلمة من موطنهم التأريخي الذي صمدوا فيه لآلاف السنين.

 

تتميز لوحات عامر بدر بألوانها التي تبدو خافتة في الخلفية وغامقة في رسم الشخصيات، وكأنما تخبرنا اللوحة بأنها جزءًا مقتطف من هذا العالم، وماخلفها مغطى بالضباب، مجهول وغامض، وتسوده هجرةٌ وجفاف، اما التركيز على الألوان الغامقة للسجادات التي غالبًا ماكانت تحملها او تحكيها النساء في لوحاته، تخبرنا عن فصلِ مهم من تأريخنا وثقافتنا، ففي القرن التاسع عشر اصبحت حياكة السجاد ذات رواج في المجتمع الأهواري، وشاعت بألوانها الفاقعة ورموزها التي تنقش منها في الوشوم والحكايات المروية، فالسجاد بنفسه، يروي جزءًا من تأريخنا، انتشاره والوانه ورموزه ثم خطر انقراضه في الوقت الحالي، اعتاد عامر بدر ان يجعل النساء يهربن حاملاتِ لثقافتهن بين ايديهن، لأنهن لطالما قد حفظن هذه الثقافة من خطر الأندثار. 

 

يقول عامر في موقعه الرسمي :"‎لوحاتي هي انعكاس للذكريات والمشاعر التي مررت بها خلال طفولتي. أعمالي مستوحاة من ثقافة وعادات وتقاليد العراق حيث نشأت. الألوان والأشكال الانطباعية والتعبيرية هي تحول في ذهني وشوق لعائلتي. في حين ركزت لوحاتي السابقة على الجانب الاجتماعي والإنساني من الحياة، فإن أعمالي الأخيرة تعبر عن الآثار السلبية للحرب على الناس والبلدان والمعاناة التي تخلقها للبشر، إن تشابك ذكريات العراق السابق بانطباعي من أوروبا الحالية هي قوتي الدافعة الإبداعية. يتردد صدى عملي في المشاعر الداخلية والعواطف القوية التي أرهقتني، من الشعور بالضياع، أحاول أن أجد طريقي بالأمل، والشوق إلى المنزل، والرقص بفرح ورغبة، على الرغم من استمرار صوت الحرب"، ويقول ايضًا: "‎الإقطاع منذ بداية القرن الماضي، الحرب، التي تستنزف الأهوار التي تسببت في آثار رهيبة على الطبيعة، هي الأسباب التي أدت إلى تشريد وهروب العديد من السكان من منازلهم ومجتمعهم إلى المدن الكبرى. تمتع سكان الأهوار بمزيج اجتماعي جميل وتعايش سلمي بين طوائفهم المختلفة. مجتمع مليء بقصص الحب والشعر والعاطفة والأساطير والأبدية والحزن، ‎كان لكل هذه الأحداث تأثير واضح ومباشر على تجربتي، لذلك تعاملت مع هذا العصر بأبعاده البشرية والجمالية".

oil on canvas
“Emigration” oil on canvas 2019.

صادق كويش

صادق كويش هو فنان مقيم في هولندا من مواليد عام ١٩٦٠، وتوجد أعماله ضمن مجموعات شخصية وعامة، من بينها المتحف البريطاني، والمتحف العربي للفنون الحديثة، ومتحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون، ومتحف هيوستن للفنون الجميلة ومؤسسة برجيل للفنون، يبرز كويش في اعماله تجربته الممتدة في الفن لاكثر من ثلاث عقود مع الهجرة والتهجير، ويتواصل معرضه الجديد في "متحف ستيديليجك" بأمسترادم، الذي افتتح في الخامس من أيلول/ سبتمبر الماضي، ويضم سلسة أعمال نفّذها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة عبر وسائط متعدّدة.

تُعرض جدارية "غنِّ كما يغني الجنوبيون"، التي تتألف من ثلاثين لوحة تشكل بمجملها جدارية بحجم 3×7 م، مع تركيب مواويل بصوت المطرب العراقي سلمان المنكوب (1918 – 2011)، الذي قدّم مئات الأغاني من التراث العراقي ولحّن معظمها باستخدام آلات العود والكمان والسنطور، اختار صادق كويش صوت سلمان المنكوب في عمله كتذكير لأرضٍ منسية قد وصل شجن اغانيها لأسماع مختلف الناس، أنها عالم الأهوار.

sadiq
Photo from the exhibition

 

 

يُعرض أيضاً فيلم أنيمشن بعنوان "ذلك النهر الذي كان في الجنوب" (خمس دقائق)، الذي نفّذه الفنان بالأبيض والأسود عام 2019 ويتناول خلاله علاقته بوالده، ويشكّل الفيلم جزءاً من عمل يحمل العنوان ذاته، حيث يتجاوز مع لوحات مرسومة بالأبيض الأسود تعبّر عن الإحساس الدائم في التشرّد بالمنافي والبعد عن الوطن بلغة تفيض بالحنين، يضم المعرض إضافة إلى هذا العمل، مشاريع أخرى أنتجها الفنان خلال هذه الفترة، بينها عمله الأخير الذي لم يعرض من قبل وهو تحت عنوان "تلك البيوت التي خلف قناة الجيش"، والتي يقصد بها بيوت مدينة الثورة في بغداد التي تحول اسمها اليوم إلى مدينة الصدر، وهو عمل يتناول بداية تأسيس هذه المدينة لتكون مسكناً أشبه بـ"الغيتو" للمهاجرين الاهواريون من جنوب العراق بسبب النظام الإقطاعي آنذاك.

sadiq2

 

بالاعتماد على تاريخ نزوح أسرته، يقوم الفراجي بعمل يهدف لإحداث صدى واسع النطاق مع المشاهدين، يقول: “ليس الهدف من عملي سياسيًا، إنه يتعلق بتقديم أسئلة حول ما يحدث للذات عندما يُجبر المرء على ترك وطنه والإنتقال للعيش في مكان آخر، أعتقد أن هذا شيء لا يمكن لأحد علاجه، وأنت تتحمل هذا العبء إلى أي مكان يمكنك أن تسافر إليه أو تستقر فيه بعد ذلك، المسألة تبقى عالقة في قلب الشخص بشكل دائم.” وايضًا: "لكن المعرض كان أيضًا بمثابة تمرين شخصي للتعامل مع الإحساس الدائم بالتشرد الذي لن يتخلص منه أبدًا، فعلى الرغم من سنوات عديدة بعيدًا عن العراق، يحمل المرء هذا الإحساس بأنه خارج مكانه بشكل دائم، وأنه ليس في وطنه أبدًا لا في الخارج ولا في العراق".

 

كتب كويش ايضًا رسالةً يبوح بها عن مشاعره، واصفًا الحنين وشعور الفقدان والاغتراب عن وطنه الأهوار فهو كما يقول، وكما يحكي عن لسان حالنا، يخالجه دائما الاحساس بانه ليس في وطنه ابدًا لا في العراق ولا في خارجه، يقول في الرسالة المترجمة من الانجليزية: "ثَمة تبصُرات، تَتَراءى من بَعيد، آتيةٌ من جيل لم أرهُ، هناكَ ثمة حياة لم أعشها أبداً، لكن، رُغمَ ذلك ترعرعتُ في ظِل إرثها، إنهُ جيل جدي الذي إستوطنَ في روضَته الجنوبية الخاصة بهِ، لكنهُ قَد بدى يدفعُ ثمنَ وجودهِ هناك، في ذلكَ المَكان، حيث القوة المُتَسلطة للإقطاع والبؤس، إذ إمتزَجت جماليات الحياة بالقسوة، حتى تولَدت دوامة لا نهاية لها تتأرجحُ فيها الأحلام والكوابيس، تتغلبُ على أحلامهم الضائعة الرَيبات المتُألمة والخسارة، وهذا الحزن والأسى شَكَل عالمهم وبناه، ترسخَ في بواطن تصوراتهم محيط الأشياء حولهم، لتصبح الإرتعادات سمة من سمات وجودهم، بحُبٍ شديد، رواقيٍ، إنطلقوا مازجينَ شهوة الحياة بالتزهُد، لأنهُم في مجتمع خاص يصنعون أغانيٍ تُمثل أحزانهم وحكايات تتلبسُ فيها السعادة بلون الحُزن، مُستَبدلين الأسى بالفرح، إذ يختلط الواقع مع الأسطورة، حيث تغرقُ الكلمات بالعذاب والحب والفراق والخراب والموت وغياب العدل، هذا الجيل يعيش في تلكَ الروضة الجنوبية، لكنهُ لا يستطيعُ أن يعيشَ حياته أو يُحدد شكلَ مصيره، على الرُغم من كل الإنطباعات والتطلُعات والمخاوف، تاركين خلفهم المحاصيل والقصص، إنَ إرثهم هيَّ أحلامهم التي تحملُ أغانيهم وبيوتهم المُشيَّدة بالقصب، المُهددة بالهجرة، آملينَ أن يجدوا حياةً أفضل، و قَد تبدو أحلام الهجرة وردية دائماً، أما مسار الهجرة، يلمَعُ مثلَ الذَهب، كضوءٍ زاهي يتبعهُ السَراب، غير مدركين أنهم سينتهي بهم الأمر بالعيش على حواف المُدن، هذهِ الهجرة ستدخُل جيلَها الثالثَ، مثقلةً بالأعباء، ذات البؤس والخسارة، أنهُم مهاجرون أبديون يقفون على تلكَ الحَواف يحملون نفس الشغف القَديم، وبهذا الشغف، أقفُ مُنتَصِباً هنا، على جانب القنوات في أمستردام، وأُراقب طُرق الرَحيل، وأستمع إلى همهمة العَصب الذي يربطني بتلكَ البِلاد الجنوبية التي تحملني إلى ذلكَ النهر النحيل، نهر الرِفاعي، يسبحُ على ظهر الاهوار وفي طريقهِ يَسقي أناشيد الحب والامل، ثُمَ يتلاشى بعد قحطٍ وغياب وعُزلة، هذهِ الرَسمات، هي مُحاولة للكَشف عن رؤى هؤلاء المُهاجرين القُدماء الأوائل، إنهم ينتمونَ إلينا، نحنُ الذينَ ما نزالُ في حالة إهتزازٍ وتحرُك، تدفعنا الرغبة الأبدية، نُصور السماء التي سنقفُ على حوافها إلى الابَد".

باشو مانيا

باشو مانيا هو المؤسس ومدير تحرير شبكة الأهواري، وهو صحفي أهواري مستقل يركز على الصراع العنصري والحقوق الثقافية في المنطقة.