إستقصال الإستعمار من سرديّة حملة بلاد ما بين النهرين

decolonizing

الأهوار على الجبهة:

لا يزال المؤتمر الثامن والعشرون للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP 28) منعقدًا في دبي وأنا أكتب هذا النصّ في تضامنٍ حقيقي؛ ولكنني لو كنت انا المشكلة الحقيقية في هذا العالم لادعائي بأن لدي بعض الحلول، فإن تضامنهم الأدائي الفاسد لا يؤدي إلا إلى إضفاء الشرعية على الأعمال المعتادة الغير محلولة. أي أنه على الرغم من دخول الحكومة العراقية بكامل قوتها، بوفد قوامه 300 فردًا إلى هذا الحدث والجناح الأول1 ، هل يمكننا التوقّع بأن يشهد الشعب الأهواري تغييرًا ثوريًا يتمحور حوله عالميًا، حين ترفض الحكومة الوطنيّة العراقيّة أصلًا الإعتراف رسميًّا بأصالته ولغته؟ أم نقبل هلاكه بصمت لأنّنا فشلنا بإعلام أنفسنا، منشغلين برتابة حياتنا اليوميّة وامتيازاتها كعبيد ومجرّد بكرات في الآلة الرأسماليّة؟ من المتوقع أن يصبح المليارات لاجئي مناخ بهذا المعدل من الاحتباس الحراري2  ، كالأهواريين: لذلك، قد نكون قادرين أيضًا على التعاطف -على الصعيد الشخصي كمنفى بسبب الدكتاتورية- مع ملايين الأشخاص الذين تهجّروا حاليًا من ديارهم وأراضيهم بسبب الحلول البطيئ للكوارث المناخية التي سببها الإنسان!

بالواقع، إنّ الهدف من هذا المقال هو سرد تاريخ بريطانيا الإستعماري الوحشيّ في بداية الحرب العالميّة الأولى، عبر حملتها في بلاد ما بين النهرين، وذلك لاستعادة المنصّة الدوليّة على نطاقٍ واسع لتضخيم أصوات الأهواريّين الذين ما زالوا يدافعون عن حقوقهم باستعادة أراضيهم وسيادة أصالتهم. بالإضافة إلى غرس الإلحاح في عمليّة الأمم المتحدة ، سأحاول أيضًا رسم أوجه الشبه مع المجموعات الأخرى العديمة الجنسيّة التي تشمل ملايين المهجّرين بعنف في وجه التهديدات المعقدة, المتعددة الأوجه, والخطيرة على حياتنا وسبل عيشنا. يكثّف مؤتمر الأطراف والبيروقراطيّات الإنسانيّة الأخرى بشكل ممنهج الإجرام عبر المساحات التي دعينا إلى الإعتماد عليها لتحقيق المساءلة وضمان مجرّد احترام حقوق الشعب من البيروقراطيّت الإنسانيّة. تتدعي تلك المؤسسات مواجهة قوّة الدول للدفاع عن المهمشين بعد قرونٍ من الإبادة العرقيّة التي نفّذتها تلك الشبكات المعاد تجميعها من الحكم الإستبدادي المتشابك في جميع أنحاء العالم3 . إنّ حقيقة الأمر، لا يزال التاريخ يُجَنَّد من خلال التصنيفات العنصريّة الطائشة - حيث لا تكاد إلّا خمس جامعات في المملكة المتحدة تظهر التزامًا، بطريقة أو بأخرى، بإعادة صياغة أساليب تدريسها من خلال "إنهاء الاستعمار" في مناهج محددة في واحدة من كلّياتها على الأقل4 - وبالتالي، فإن اهتمام "نموذج الأمن الليبرالي" الشديد بإحتمال حدوث فتنة وأعمال شغب، لا يؤدي إلا إلى جعل الحوار بالفعل مستحيلًا5 . يعزّز هذا الأمر العنف باعتباره الشكل الوحيد المفهوم اللّغة السياسية، على الأقل في المصطلحات الأورويلية: عندما تفشل اللغة الإنجليزية.6

العلاقات الدولية للإستيلاء على الأراضي:

وعلى هذا فمن المؤسف بكل صراحة أن يلقي الملك تشارلز الثالث, الذي تُوِّج مؤخرًا, بالخطاب الافتتاحي لهذا الحدث، والذي ربما كلّف أكثر من التعهّدات الماليّة الهزيلة التي بُذلت في ذلك الحدث للتصدي لأكبر تهديد وجودي تواجهه البشرية على الإطلاق. وفي خطابه، يدرك على نحو ملائم حاجة حجم هذا التحدي إلى مساهمة الأغنياء ببضعة تريليونات من الدولارات في تمويل ضروريّ، وهو تمويل يحتاج إليه بشكلٍ واضح الضحايا منا الذين يواجهون بشكل مهين القسوة الهائلة من السياط الغاضبة للطبيعة، كالحرائق والأمواج المستمرة. ومن المثير للسخرية أن المبلغ الذي تم جمعه فلم يتجاوز المبلغ الذي تم وعده و لم يصل إلينا قط من تقديم 100 مليار دولار في كوبنهاغن ب2009, 7  الرغم من تولي الملك شارلز القيادة، والتنازلات الكبيرة التي قدمتها الأطراف الأقل نموًا لقبول صندوق الخسائر والأضرار التاريخي المتّفق عليه أخيرًا في شرم الشيخ العام الماضي. كان الصندوق (نأمل أن يكون مؤقتًا) قائمًا على سجلات البنك الدولي المريعة لسوء إدارة المياه.8  على سبيل المثال، خسر لبنان الغنيّ بالمياه ثروته المائيّة حيث توجّب على متعهّدي البنك الدولي تحقيق الأرباح وهم مكلّفين بضمان سلامة السكان المحليين فضلاً عن مخيّمات اللاجئين وشبكات مياه الشرب والصرف الصحي، وذلك فقط من أجل إضفاء المصداقية. حمّل ذلك على المدى الطويل البقاع كلفةً كارثيّةً على تربته المقدسة والصحة العامة.9  من الناحية القانونية، رغم أن الاعتراف بالإبادة البيئيّة كجريمة في المحاكم الدولية ما زال جديدًا، فإن سلطاتنا العالميّة الحاليّة هي بدورها تنبع من أنظمة إستعماريّة قديمة للغاية وما تزال تحاول الاستمرار في بناء العنصريّة البيئية. يُبنى هذا المشروع الإستعماري بدلاً من إفساح الطريق لبداية جديدة نظيفة مع ضمان السلام في عالمٍ لم يكن أكثر دفئًا من 1.5 درجة مئوية قبل الرأسماليّة الليبرالية. عندما تتم مكافأة، والدفاع عن، وتغطية، ومرافقة، هؤلاء المجرمين المتألّقين للحفاظ على صلابة الوضع الراهن عبر إرهاب الأقليّات وانتهاك حقوق الإنسان للناشطين المنشقين، سيضطرون بالتأكيد على سماعنا عندما نستخدم التكنولوجيا لتنظيم أنفسنا للتغلّب على الحدود التي يعبرونها بسهولة تامة بطائراتهم الخاصة. يمكن للأمم المتحدة أن تختار بين دعوتنا أو دعوتهم في العام المقبل: إننّا حذّرنا، إمّا نحصل عليها أو نرفضها.

إنّ الملك تشارلز أكبر مالك أراضي في العالم، بمقياس مذهل يعادل سدس إجمالي سطح كوكب الأرض10 ... ومن المفارقات أن مفاوضات المناخ هذه، التي تشمل بالمناسبة أكثر من 2400 فردًا من المدافعين عن الوقود الأحفوري،11  وبعضهم ينتمي إلى الوفد العراقي المذكور، يجب أن تؤخذ على محمل الجد من أجل إعادة إنتاجهم بطابعٍ استعماريّ للأنظمة التي ما زالت تستفيد من السياسات الإقطاعية للاستيلاء على الأراضي. سيسمح الإستيلاء الآن للملوثين بخفض انبعاثاتهم من خلال أسواق الكربون المبيّضة "للمحافظة على الحصن" المعتبر مع الضغط نموذجاً متفوّقاً على نظيره المبني من أولئك الذين يحرثون الأرض ويحموها.12  إنّ أفضل دليل على ذلك هو حالة فلسطين، حيث يتم الترحيب بالرئيس الإسرائيلي الجزّار في بيئة تهدف وأخيرًا إلى إدراج أصوات الشباب والأطفال المهمشين في جميع عمليّات صنع القرار السياسي منذ COP21، بدلًا من أولئك الذين يحاكموننا في المحاكم العسكريّة، ويحتجزوننا بشكلٍ غير قانوني، ويعذّبوننا، ويقتلوننا بمعدل تطهير عرقيّ مؤلم لا يمكن تصوّره على مدى الشهرين الماضيين والذي أخذ أرواح أكثر من 20،000 شهيدًا، مع قتل أكبر عدد من القاصرين في الشهرين الماضيين بكميّة تفوق أيّ صراعٍ دام سنوات: حوالي ضعف عدد الأطفال الذين قتلهم الغزو الأمريكي للعراق خلال 14 عامًا.13  ومع عدم مقارنة هذه المآسي، تذهب الحجّة إلى الادعاء بأن جذورها التاريخيّة كانت ولا تزال واحدة: ففي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية-الهندية تبحر في دجلة للإستيلاء على بلاد ما بين النهرين من العثمانيين، بحلول عام 1918، شنّت القوات نفسها حملة هجومية أخرى ضد الفلسطينيين وسيناء لاستعادة غرورهم، بعد أن تم حصارها بشكل مؤثّر لمدة 147 يوماً في مدينة الكوت.

الإيكولوجيا الاجتماعية الدولية

إنّ الأسوأ من الاستعمار نفسه هو حقيقة استمراره دون هوادة - كما هو موضح أعلاه - مع دعم الناس البيض الواسع لتشويه التاريخ وإنكاره ومحو آثاره. على سبيل المثال، يرى مؤرخون مثل كنعان ماكيا أن  حديثة تطوير إدارية تركز السلطة في بغداد بشكلٍ إيجابي،14  "كبناء للأمة" على الرغم من تدمير تلك السلطة للتطلعات الكردية والآشورية لاحقًا إلى تقرير المصير؛ إنّ تطوير المستشفيات والمؤسسات التعليمية الغربيّة لا يمكن أن يعتبر على هذا النحو،15  لأن الأرقام البابليّة تدعم فهمنا الحسابي للوقت والدوائر16 ، والعديد من المبادئ الأخرى. إن الإدعاء بقيام استعمار العراق، على وجه التحديد، بتحسين صحّة السكان الأصليين أمر سخيف: إنّ العلاقة السببية بين إستخراج الوقود الأحفوري والسرطان واضحة بشكل خاص في البصرة.17  وعلاوةً على ذلك، فإن شركة الهند الشرقية البريطانية تتحمل اللوم عن عدد كبير من المجاعات نتيجة للنهب الذي دفع سقوط الهند من تمثيلها 20٪ من الاقتصاد العالمي إلى 4٪ فقط بعد مرور عدّة قرون - هذه البيئة القاسية المستمرّة تكيّف الجينات للنجاة من التجويع المقصود. علاوةً على ذلك، تتحمّل شركة الهند الشرقية البريطانيّة مسؤوليّة تجنيد الصحة/علم الوراثة الجينية لزيادة عرضة شعوب جنوب آسيا ما بين أربع وست مرات للسكري. 18  تظهر مصطلحات كـ"المرونة" و"التنوع" للكومنولث في هذه المعارض وتعيد سرد التجارب الحيّة لغالبية الجنود السيخ الهنود الذين وجدوا الأمان من الحرب التي أجبروا على القتال فيها من خلال عقيدتهم. فقد سمح ذلك لهم بإعادة بناء بابا نانك غوردوارا في بغداد العائد إلى عام 1511 بعد الميلاد فقط ليُعاد تدميره مرة أخرى على يد الأمريكيين عام 2003. 19  لذلك تُستخدم هذه الروايات كمجرّد رموز ملائمة للمتاحف جنبًا إلى جنب مع آثارنا القديمة المسروقة، دون تغيير حقيقي للاستغلال التاريخي للعرق والسياسة الحيوية.

وفي محاولة للإجابة على الأسئلة المطروحة في البداية، فمن المحتّم أن تستمر الأمور في التفاقم إلا إذا تمرّدنا جميعًا الآن ضد نزعات الإبادة الجماعية التي تستهدف الشعوب الأصلية وغيرها من الشعوب العديمة الجنسية لكوكبنا المشترك. نأمل أن تساهم هذه المقالة في تحميل شركة بريتش بتروليوم (BP، التي كانت آنذاك Anglo-Persian Oil) المسؤولية عن إطلاق حملة بلاد ما بين النهرين لصالحها في الإستيلاء على حقول النفط في خوزستان وشط العرب.20  وقد وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة "كربون بريف" أنه إذا حسبنا انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التاريخية التي أطلقتها بريطانيا المستعمرة، بدلاً من تلك الانبعاثات الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري داخل حدود المملكة المتحدة الحاليّة فقط،21  تتضاعف مسؤوليتها عن أزمة المناخ هذه. وعلى الأرجح أن هذا الرقم لا يشمل الانبعاثات العسكريّة، التي يبدو أن جميع البلدان الأخرى تتملّص منها أيضًا عندما تسمح آليّة الأمم المتحدة بذلك. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى الآثار البعيدة المدى التي خلفها سلاح الجو الملكيّ في تنفيذ أوّل عمليات حربيّة جويّة له هنا، حيث حلّق أكثر من 4000 ساعة لتحقيق الإنضباط (فوق فلسطين وأفغانستان والصومال الحديث أيضًا) فضلاً عن إلقاء حوالي 97 طنًّا من القنابل ضد المتمردين في بلاد ما بين النهرين خلال الحرب العالمية الأولى.22  وبحسب العالم المشهور نعوم تشومسكي، حرّض تشرتشل أيضا على إستعمال الاسلحة الكيميائية "ضد العرب المتمردين كتجربة."23  تخدم انتصارات تشرتشل العسكرية، التي تشدّد عليها المؤسسات الثقافية كمتحف الجيش الوطني كعملٍ شجاع، لإخفاء حقيقة أبشع بكثير وهي منح السلطة لاقليّة السنيّة حتى اليوم، مرورًا بملكٍ أجنبي ودكتاتورية صدّام حسين. ولطالما كانت الحكومة العراقية متواطئة في تغيير مسار أنهارها حتى تتمكّن شركة بريتيش بتروليوم من مواصلة أعمال الحفر. من أجل إستغلال شمال الرميلة، أكبر حقل نفطي في العالم، تم تجفيف 800 كم 2 من الأراضي الرطبة والمستنقعات تماماً على هذا النحو.24

إنّ النقطة المهمّة التي نستخلصها هي أن هذا الموضوع يؤثر علينا جميعاً، وبالتالي يمكننا جميعاً إيقافه. وقد يرتبط انعدام الجنسيّة بين الأهوار والفلسطينيين والبلوش بصراع السود ضد الدولة. ففي نهاية المطاف، حياة السود والعراقيين والإيرانيين مهمّة أيضا! وبعيدًا عن إعادة تدوير الكلمات المشحونة، كحملة ترامب "لاستنزاف المستنقع" من الفساد المستشرس كالملاريا، والذي يتماشى تمامًا مع أيام موسوليني الفاشية، تستند هذه الخلفيّة البلاغيّة إلى الأعمال الهندسية الحرفيّة التي تكرّر ما تقوم به حاليًّا في العراق وفي إيطاليا والولايات المتحدة.25  لا شك أن جغرافيّة التغيير ترحّب بالعبيد المتمردين الهاربين الذين تاجر الأوروبيون والعرب بأرضهم الرطبة غير القابلة للحكم. في حين أن رئاسة COP28 كانت قادرة على إقتراح إطارٍ عمل للتخلص كليًّا من الوقود الأحفوري في مستقبلنا القريب - ولكن السعوديّة وأوروبا غيّرتا النص كالمعتاد في اللحظة الأخيرة، إلى "خفض تدريجي" بدلاً من ذلك26  - فإن نتائجها المخيبة للآمال أيضًا تنبع من رفض الإعتراف بالتاريخ المشترك من الصداقة التضامنيّة بين الأهوار وبلوشستان وفلسطين وزنجبار في مكافحتهم العبودية عبر اتصال عميق بالطبيعة.28 -27  سُلب منّا هذا الاتصال الآن مع نظام الكفالة في دبي القائم دون منازع. في عالم البقاء للأقوى هذا، هل سيتفاجأ أحد بالعلم أن مؤتمر الأطراف COP 27 جمّل صورة مغتصب السلطة، الديكتاتور مادورو الخضراء - بالتحديد، وزير البترول الأخير، نائب الرئيس السابق المؤقت ووزير الصناعة والتنمية السابق، طارق العيسة -  الذي يشرف على أورينوكو ماينينغ آرك الشهيرة بالإستعباد والإبادة البيئية الزئبقية في ذلك الوقت... إنّ طارق العيسة إبن أحد ممثّلي حزب البعث العراقي السابق.29  صدقًا، لا احد حرّ حتى نتحرّر جميعا.