العيش كمواطن درجة ثانية
في صغري، كانت أحاديث ومشاهد مقتل الأهواريين على أيدي حرس الحدود الإيرانيين بسبب اقترابهم من السد الموجود في هور الحويزة تلازمني كالكوابيس، كل خبر لمقتل شابٍ يجعلني افور غضبًا، وامتلي حزنًا على الظلم الذي يلحق بنا.
يقسم السد الترابي الحدودي بين الدولتين هور الحويزة إلى قسمين، الجانب الشرقي لمحافظة ميسان والجزء الآخر جنوب غرب الأحواز "مقاطعة خوزستان" ،تم انجازه عام ٢٠٠٤ على الخط الحدودي الفاصل بين العراق وايران.
قبل ثلاث سنوات وقبل أن يتم تجفيف هور الحويزة، كنت أنا وصديقي سجاد نصطاد في المناطق العلوية من هور الحويزة، حيث كانت عائلتي تمنعنا من التوغل في الحويزة خوفاً من الاقتراب من الحدود بقاربنا، ولكن في ليلة ما، قررنا الذهاب إلى تلك المنطقة المحتلة بسبب الخجل الذي كنا نشعر به من الشباب في قريتنا في الأهوار الذين وصفونا بالجبناء، ولأن الصيد كان متاحاً في تلك المنطقة من الحويزة، وهو ما شجعنا على الذهاب إلى هناك، والتي كانت تبعد حوالي 10 كيلومترات عن مكان صيدنا القديم. وبمجرد وصولنا، في الساعات الأولى من الليل، اختبئنا بين أجمات القصب، على بعد حوالي ٥٠٠ متر من السد الترابي، حيث كان أول ما رأيته هو حرس الحدود الإيرانية يتجولون بسياراتهم وأعمدة الحراسة والأسلاك الشائكة على طول السد وأعمدة الإنارة المجهزة بكاميرات حرارية.
بدأنا بتجهيز معدات الصيد، حيث كنا نستخدم طريقة اهوارية اصلية لصيد الأسماك والتي تتطلب وضع الضوء في الجزء الأمامي من القارب لمساعدتنا على رؤية الأسماك، واستخدمنا الرمح الأهواري، الاسم الأهواري لطريقة الصيد هذه هو "سراج"، والرمح يسمى "فالا"، مالبثنا الا الدقائق الأولى من الصيد، وبدأت اطلاقات النار بكل الاتجاهات، رأيت الشباب يسرعون للاختباء وسط غابات القصب، كان هذا يحدث يوميا لهم فالغالبية منهم يتم ثقب قاربه بواسطة القناص الموجود على السد الترابي مرارًا وتكرارًا، يهرع الشباب الاخرين للانقاذ، وانقاذ جزء من معدات الصيد أما القارب فقد يغرق ويبقى للأبد، في وقتها اصيب كاظم، احد شباب قريتنا، اصابته رصاصة بمنطقة الفخذ وكان ينزف بشدة، ربطنا موضع الاصابة وانطلقنا عائدين ولكن كان البيت يبعد عنا ٣٠ كيلومترام المستشفى يبعد أكثر من ٨٠ كيلومتر، ما ان وصلنا القرية فارق الحياة كاظم وسط الزورق، لينظم كاظم لقائمة الشباب الذين قتلوا، التي لا املك عددا تقريبي لها، لاننا كسكان أصليين نموت ولا نصبح فاجعة وطنية فقط لأننا من هذه الأرض.
في كل مرة، يتم تعمد الصمت والتجاهل للترويج الدائم لفكرة أنها حدود دولية وما حدث هو حق قانوني، حتى أنني قد انطلت علي هذه الخدعة حتى وقت قريب، والآن بعد أن كبرت وعشت هذه التجربة، تجربة الرعب والموت المؤكد فقط لأننا نصطاد في موطننا التاريخي، الحكومة العراقية تفرض سياساتها العنصرية، وتمنعنا من ان نسكن ارضنا، حيث يتطلب علينا تجديد تصريح لدخول موطننا كل ستة أشهر وتقوم بافساح المجال للشركات النفطية لتدمير أرضنا، يُطلب منا تصاريح وبطاقات وارقام قيد، كلها، تُقيد حركتنا ومعيشتنا على صعيدٍ يومي، نحن نقتل في ارضنا، نحن نمنع من التنقل بحرية في أرضنا،نحن نمنع من العيش الكريم، نمنع من كسب رزقنا، نمنع من الصيد في أرضنا، فمن جانب الحكومة العراقية التي تعتبرنا سكان درجة ثانية و تبخس حقنا، ومن الجانب الايراني الذين يفعلون الامر ذاته بشعبنا في شرق الاهوار، يقتلوننا، يضطهدوننا، شرقًا وغربًا، بين الحدود التي قسمها المستعمرون.
لطالما عاش شعبنا الاهواري ضحية التمييز في المدارس و الاستغلال في سوق العمل، كما يتم سلب أراضينا من خلال اتفاقات غير عادلة،وتستمر الحكومة العراقية في إنكار حقنا كشعب أصلي في العيش وفي إدارة أراضينا الاصلية، وكثيرا ما تتبنى سياسات استغلالية لانتزاع أراض تعود لنا منذ قرون، وفي بعض الحالات، قامت الحكومة باعتماد سياسة الادماج والتوطين بالإكراه لمحو ثقافتنا وتقاليدنا، في محافظة مثل ميسان، لا يمكنني شراء قطعة أرض في مركز المدينة لأن صاحب المكتب العقاري بعد أن يسمعك تتحدث بلهجة واضحة، يرفض أن يبيعك قطعة أرض حتى وان كنت تدفع فوق سعرها ضعفًا لأنه يقارن ذلك بالعنف والمشاكل القبلية، إلا في حالة ان كنت تتحدث بلهجة مركزية اكثر، وفي معظم الاحوال سيتم طلب اسم القبيلة والسكن الاصلي فيكتشف هويتك التي ستؤثر على اتمام صفقة الشراء.
على الرغم من المؤتمرات والندوات العديدة التي تقام للدفاع عن شعب الأهوار، إلا أن هذا التضامن في أغلبه ليس لنا، وأصبحت الأهوار مادة لكسب الأموال وغسيلها، في كل مرة احاول ايجاد اعلام حول قضيتنا، أسمع خطاب هذه المنظمات غير الواقعي والبعيد عن حق أبناء شعبنا الاهواري في العيش بحرية وكرامة، بدأت هذه المنظمات باستغلال الأهوار بكل الطرق، فعلى سبيل المثال، خصصت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في عام ٢٠٢٢ أكثر من ٢١ مليون دولار لدعم مربي الجاموس، ووزعت عدة أكياس على بعض مربي الجاموس في الچبايش، وعددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وهذه الكمية التي تم توزيعها لا تكفي المربين لليوم واحد، وبعد ذلك تبين ان جميعها فاسدة وألقيت في النهر من قبل مربي الجاموس.
وبحسب منظمة الفاو فإن كمية الأعلاف التي وزعتها بلغت 3000 طن (1000 طن نخالة – 1000 طن تبن – 1000 طن سيلاج الذرة الصفراء) وزعت على 5000 مربي جاموس، بالإضافة إلى 3000 طن دبس قصب السكر وزعت على 10000 مربي، مشروع مربي الجاموس في الجنوب والذي يشمل 3 محافظات هي: البصرة، ذي قار، وميسان، لمساعدة مربي الجاموس في التخفيف من معاناتهم من الجفاف وارتفاع أسعار الأعلاف، وتبلغ قيمة المشروع 21 مليون دولار.
ولم يحصل اغلب مربي الجاموس في ذي قار على علف او دبس وهذه الارقام موجودة في ذي قار وحدها، علماً بوجود قرى لمربي الجاموس في اهوار الحويزة وبقية اهوار ميسان، ولم تدخل ضمن الأموال المخصصة لمربي الجاموس في ميسان، وهناك 3 مناطق تم توزيع الأعلاف فيها بواقع 6 أكياس علف، علماً أن المبلغ المخصص لدعم مربي الجاموس في ميسان يبلغ 7 ملايين دولار.
أن شعبنا الاهواري لا يتمتع بشكل خاص على الصعيد العملي بالحد الأدنى من الحقوق. فإلى يومنا هذا، وواجه العديد من المخاطر التي تهدد وجودنا، وذلك كأثر لنهج وممارسات حكومية ظالمة وعنصرية، كالعديد من البلدان، فإن موقعنا كشعوب أصلية على مؤشرات التنمية تدل على مدى تدهور وضعنا قياسا على المجموعات الأخرى في الدول التي نعيش فيها، مثل اعداد السجناء، معدلات العنف والانتحار والصراع القبلي، كلها، تفتك بقلب مجتمعنا ويستفيد منها السياسيون في حملاتهم السياسية المدفوعة بمعاداة المهاجرين او الاقليات.