الحكاية المخفية: الحياة كأنسان اهواري.
لم يقل لي أحدهم في نشأتي بأنني أنحدر من دماء الأسلاف الهاربين الذين نجو في غابات القصب عبر آلاف السنين، ولكنني دائما لمست ذلك الأحساس، في الخطوط التي تتفرع يدي، العروق التي تحكي الألغاز والندوب التي تروي الحكايات، الوشم التقليدي، لقمة خبز الأرز الساخنة في الفم وقصةٌ عن بيضٍ أزرق يتوسط الأعشاش المبنية بين القصب، القصب وطعم لبه الحلو وصلابة ساقه واسمائه العشرة، المياه التي تدب الحياة في أرواحنا يسبح فيها الصيادون والأطفال بتناغم لا مثيل له، الشمس التي تطل على البيت الأصفر، لونها البنفسجي والأزرق في الفجر ثم الشعاع الدافئ حتى الغروب الأحمر، هذه ليست أستعارة لشكل الوئام بين الأنسان والطبيعة، بل إيضاح شكل آخر من اشكال النزوح بالشعور بأننا اصبحنا منفصلين عن الماضي حيث كل شيء في الطبيعة كان يبدو كما ينبغي ان يكون، لا أعلم متى تدمرت هذه الجنة، اربعون عام ام مئة ام ألفًا، ولكنني أعلم انها لطالما كانت موجودة.
بدل ذلك علمت عن حكاية منسية من اوائل القرن العشرين عن شعب بقي يعبر الضفة الأخرى من النهر الى أن تشرد في الصحاري والمدن الغريبة، بعد ان قدم ذلك الأنسان بندوب قدميه الهاربة من الشرق تشق الأراضي الجنوبية الى الأعالي، وجد كفيه الممدودتين قد كُبّلا، قيل له بأن وطنه المنفى وقطعوا لسانه لتعيش الأجيال من ابنائه ماعاش دون ان تحكى تلك الحكاية وليكون مصيرهم الفقر والمعاناة، في يومٍ ما لم يكن وطنهم يشبه ايء شي عن ماعلموه، أصبح صحراء قاحلة وأنهار من الدماء تفيض بالسيول، يدفَن الرجال بأيدي مقيدة، والنساء الحوامل مع بطونهن الكبيرة وخزامات انوفهن، نحن وكلماتنا التي لاتجد لها متسع امامهم، الشباب اليافعون وقلادات الفتيات التي تصنعها امهاتهن بأيادي حُمرٌ محنّاة، يدفنون بغتةً دون أسماء ودون حروف، ألتهمت الطيارات الأطفال وجفت أرض تلو اخرى لم يتبق منها سوى اللعن والبغض، تقول القصة في النهاية، هرب هذا الشعب طوال التأريخ ولطالما عاد الى أرضه فهو يحتضر بدون المياه، سيعيد بناء بيت القصب الضخم وهو على يقين بأنه حليفه الوحيد وكل الباقي اعداء محتملين.
كان الجنود يسحبون حلي النساء من قرية تلو اخرى، سحبوا المجوهرات المتبقية من ايدي النساء وانوفهن لدعم التسليح الوطني، الأسلحة التي قتلت هذا الشعب نفسه، الأموال التي تضخها معامل النفط العملاقة، العمالة والتجنيد الألزامي، بهذه الطريقة كان عدم معارضة النظام أشبه بالأنتحار، أصيب كل من في العائلة بأشعاعات اليورانيوم منذ ان قصفت قوات التحالف الخميسية بأطنان من اليورانيوم المنضب، البلدة الصغيرة التي ملأت بمخازن السلاح على مقربة من هور الحَمّار في حرب الخليج، اجرى فريق التخلص من الذخائر المتفجرة الامريكي عملية هدم المذاخر وخلق سحابة الفطر العملاقة التي لاتزال آثارها الطبية موجودة في الأجيال.
منذ عدة سنوات فكرت فيها كل يوم تقريبًا، ارى السحابة تكبر وتكبر لتغطي الجميع، منذ ستة سنوات توفي جدي الأول، قلق الأطباء من الأشعاعات في جسده منذ اول مراجعة ولم يستطع تكفل الدواء لذلك أصابه الشلل حتى أصبح لحم جسده ملتصقًا بالفراش، توفي الجد الثاني ثم الثالث بطرق قد تكون أشد مأساوية واصيبت امي بمختلف الأمراض، قراءة أشرطة الأدوية المضادة للغدد السرطانية الخاص بها كان صدمةً لي ثم بنفس الأمراض أصيبت أختيَّ ايضًا، ثم أنا، علمت في السابق مايحمل جسدي وبأنه انتقل لنا عبر الولادة ولكن لم أكن على يقين بأنه سيتداعى بشكل أسرع، قمت في السابق بعملية جراحية بعمر العاشرة جعلتني لا أستطيع المشي لعدة أشهر وحسبت ان هذا الألم الجسدي أشد مايمكن للأنسان ان يتحمله، رأيت نفسي أنزف واعاني، ورأيت من في عمري من اطفال اقربائي تقطع أصابعهم الأضافية الناتجة من التشوهات الولادية ولا أزال لا اعلم مالذي سيحدثه في المستقبل.
عشت انا الإرث الذي عاشه من سبقني، ليس الأطعمة التقليدية والرقصات المحلية، بل تأريخ من الأزدراء والأضطهاد، تهجرت عائلتي ونجى معظمهم من الإبادة، مات البعض الآخر ايضًا وتعرضوا للقمع والتعذيب، التوطين القسري، القنابل العنقودية، أعلم بأنني قد تعلمت ماهي القوة من نساء عائلتي، أنقذت جدتي أطفالها من الفيضان على قريتهم بعد ان انتشلت جثة طفلها الأكبر وأعادوا بناء كل مافقدوه في منتصف المأساة، عاشوا رغم ان الحكومة قد تعمدت الفيضانات، وامي، قد جعلتنا نصمد بأعجوبة امام الفقر والحرب، اعلم ايضًا كم من الناس قد يشعرون بالمثل.
كانت لدي هذه الفكرة دائما، كتابة قصتي، لكنني لم أكن متأكدا لأنها شيء أعيشه كل يوم والقصة لم تنتهي بعد، لكنني فكرت في كتابة القصة التي انتهت بالفعل مع الأشخاص الذين عاشوا من خلال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وإن لم نحكيها، فستكون خسارتنا مأساوية، لن أستبدل كلماتي بالصمت بعد الآن، سأتحدث بصوت عال، بكل صوتي وبكل فخر، لأنني أهواري، كل يوم، وهذه مقاومة من تلقاء نفسها.