"الخروج من جنة عدن": الاهواريون والصراع مع الدولة الحديثة

garden eden

في الوقت الذي نشهد به التهديد البيئي الذي تتعرض له الأهوار في ظل ازمة المناخ، والذكرى الثلاثون للأبادة الجماعية والتجفيف، يجدر بنا ان نلقي الضوء من خلال نظرة تحليلية على السياسات التي شكلت علاقة الدولة الحديثة مع شعب الاهوار منذ مطلع القرن العشرين في مراحل عدة، والاهواريون هم مجموعة سكانية في دلتا بلاد الرافدين تتصف بثقافة فريدة ومختلف على اصولها، مما جعلها تتعرض لأضطهاد تأريخي برزت ملامحه بعد الحرب العالمية الاولى. 

الحرب على المياه وتجارة العبيد

بسبب طبيعتها الجغرافية المتمثلة بغابات القصب أصبحت الاهوار مهربًا على مر القرون للهاربين من الرق في عهد الخلافة العباسية، برزت كأرض لا يمكن اختراقها وارتبطت تلك الخاصية الجغرافية بوصف سكان الأهوار بالخيانة والتمرد والمحاربة الأقليمية لتجربة السواد، فقد شارك شعب الاهوار مع الافارقة المستعبدين في ثورة الزنج احدى اوائل حركات التحرر من العبودية والتي تمركزت في الأهوار ضد الخلافة العباسية عام ٨٦٩م وحكمت اجزاء من جنوب العراق لعقود بواسطة العبيد الذين تم جلبهم للعمل في اقطاعيات جنوب العراق، صنفت هذه القبائل تاريخيًا على أنها عدائية كوصف الولاة العثمانيين لثورة ابن عليان الذي استطاع ان يبني قوة عسكرية وسط متاهات القصب.

لجأت المجتمعات الهاربة عبر التاريخ الى المناطق الرطبة مثل شعب توفينو الذين هربوا إلى بحيرة نوكوي للهرب من تجارة الرقيق، أطلق المعارضون العراقيين على الاهوار اسم "غابة شيروود الخاصة بنا" فبعد ان بدأ المتمردون الشيعة في استخدام الأهوار كقاعدة للاختباء من القوات الحكومية، ‎كان صدام حسين مستاء من شعب الاهوار بشكل خاص لأنهم عرضوا اللجوء والمساعدة وبسبب مشاركتهم في انتفاضة عام ١٩٩١، بالأضافة الى يأس الحرب، دفعت تلك العوامل مجتمعة الى تأجيج خطاب التفوق العرقي والطائفي والذي في النهاية انتهى بالأبادة.

لم يبدأ تدمير الأهوار في عام ١٩٩١ أو خلال الحرب الايرانية-العراقية، ولكن قبل قرن من الزمان، فقد قسمت الأهوار لقسمين بواسطة اتفاقية سايكس بيكو، القسم الأكبر البالغ ٧٠٪؜ من المساحة الكلية في العراق وما يقارب ٣٠٪؜ في ايران. أصبح ترسيم الحدود الحديثة اول شكل لرسم العلاقة بينهم وبين الدولة العراقية التي تخط رحالها للأستقلال، لآلاف السنين برزت الأهوار كمنطقة عديمة الجنسية مماثلة لما يصفه جيمس سكوت بالمرتفعات في جنوب شرق آسيا، كانت المنطقة غير قابلة للإصلاح الهيدرولوجيا ولا يمكن اختراقها جسديا، ملاذا طبيعيا للعبيد والمنشقين والهاربين، حيث يعد انهاء ايواء المتمردين المعارضين احد ابرز اسباب تجفيف الاهوار.
 

موقع اهوار بلاد الرافدين بين العراق وإيران.

موقع اهوار بلاد الرافدين بين العراق وإيران.

التهجير والتنمية القومية 

‎عاش الاهواريين في عزلة نسبية حتى الحرب العالمية الأولى، بحلول ذلك الوقت أدت زيادة التجارة وهجرة اليد العاملة إلى زيادة الاتصال بالمجتمع المتبقي، ولكن في خلال نشأة الدولة العراقية تم اعتبارهم الطرف الآخر للأمة التي برزت في خطاب المملكة، تعتبر الأهوار للآن الحديقة الخلفية للدولة، قد تستضيف السواح لتلميع صورة الحكومة والدخل الأقتصادي ولكن تُقطع حصصها المائية وترمى مياه الصرف السامة اليها في كل وقت، تسربت العنصرية المنهجية في دولة مابعد الأستعمار دون الأشارة لحلولها وما ادى لوجودها وتفاقمت بعد تشكيل المدن والأحياء الفقيرة المزدحمة التي فر لها الاهواريين، هاجر الرجال المتعلمون إلى البصرة وبغداد حيث فشلوا في العثور على عمل  وعاشوا في أحياء فقيرة واضطهدوا من قبل الشرطة كما وصف ويلفريد ثيسجر في كتابه "The Marsh Arabs”، اما تجمعات القبائل فقد سكنت مدينة الثورة (الصدر) في بغداد والتي بقيت لعقود تسمى باسم مدينة الصرائف وهي عبارة عن بيوت معدمة من البنى التحتية وفي معزل عن المدينة بدأ سكان الأهوار بالهجرة لها بعد انشاء سد الكوت عام ١٩٣٩ وتعد هذه بداية تصاعد موجات النزوح الأهواري، بنيت فيما بعد مدينة الثورة بخرائط هندسية مختلفة ومخصصة لهجرة القرويين والتي وصفها بعض المعماريون على انها كارثة هندسية مخصصة لأحكام القبضة الحكومية على المدينة.

قبل ترسيم الحدود العراقية من قبل بريطانيا الاستعمارية تم تصنيف شعب الأهوار كمجتمع مهمش متميز، قد ادخلته من خلال عملية استعمار العراق وتحديثه منذ مخططات التحديث التي تقودها بريطانيا في العراق في الخمسينيات وأدخال أساليب تشدد قبضة النظام الأقطاعي لتنهي اقتصاد الكفاف المحلي حيث أدخلت نظام الأدارة القبلية ذاته المستعمل في بلوچستان جنوب آسيا، كان الأهواريين وموطنهم ونظامه البيئي هدفا للاستنزاف لإفساح المجال لتطوير البنية التحتية مثل سد الناصرية وحقل الرميلة النفطي، أنتجت شركة نفط العراق التي تسيطر عليها بريطانيا أفلاما وصورا تصور جنوب العراق، حيث توجد الأهوار، "كتذكير حي بالماضي". كان هذا التصوير للأهوار وسكانها مجاورا لصور مشاريع البنية التحتية المائية ومصافي النفط، كانت كلمة "معدان" مرادفة ل "ما قبل الحداثة"، وبالتالي تم تشكيلها في خيال التنمية لدولة عراقية ناشئة وتحالفها مع الاستشاريين الغربيين، منطقة الأهوار هي أيضا موقع لبعض أغنى رواسب النفط في البلاد، أكبرها حقول مجنون باحتياطيات تتراوح من ١٠ إلى ٣٠ مليار برميل وغرب القرنة باحتياطيات تبلغ ١٥ مليار برميل، استغلت التنمية الأقتصادية النفط لتجفيف مناطق شاسعة من الأهوار والتي لن يتم غمرها في وقت لاحق على أي حال بسبب وجود معامل النفط الضخمة.

من خلال خطط التنمية في التعليم والتحديث اعتبرت ثقافتنا بمختلف نواحيها مقترنة بالماضي، تمت هيكلة نظام التعليم والإعمار بشكل يبدد تداول ثقافتنا الشفوية والمادية ويصنع حالة انكار للهوية الثقافية، واستمرت خطط التنمية القومية والتحديث بصناعة أشد خطط التدمير محدثةً ماوصف بأنه احد اسوأ الكوارث البيئية والبشرية في العصر الحديث، وصفتها ناسا بأنها "واحدة من أكبر الكوارث البيئية في العالم" وهي تدمير الأهوار والأبادة بحق شعبها.

الأبادة الجماعية والبيئية وخطة التدمير

تعزو معظم الروايات بما في ذلك دستور العراق هذه الإبادة الجماعية المزدوجة إلى حملة صدام حسين للهيمنة الطائفية والانتقام من الشيعة خاصة بعد سحق انتفاضة مارس ١٩٩١، ولكن في ورقة بحثية في المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط قدم تقييما مختلفا لما حدث في الأهوار حيث أشارت بأن التدمير مدفوع بيأس الحرب اكثر من العداء الطائفي ذات السبب الذي ادخل صدام حسين في حروب متعددة، اللعب على وتر الحرب والحماية، كانت الخطة أقدم من حرب الخليج فقد كان مسؤولو الانتداب البريطاني اول من حاول تجفيف الأهوار، تعود الخطط الزراعية الحكومية للأهوار إلى أوائل الخمسينيات في العهد الملكي تتضمن مشروع كبير بدأ في عام ١٩٥٣ والمعروف باسم مشروع النهر الثالث واعيدت للواجهة عام ١٩٦٣ ثم تم احيائها في عام ١٩٩١ ولكن صدام حسين بدوره قد طورها بشكل دقيق، جادل علماء آخرون على ان خطط التجفيف المطورة بدأت منذ وقت أبكر أي منذ الحرب الايرانية-العراقية وبالتحديد عام ١٩٨٥، ولكن اوامر خطة التدمير والأبادة قد نفذت منذ ال٢١ من شهر نيسان عام ١٩٩٢، أشرف علي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين ورئيس حملة الأنفال للإبادة الجماعية في العراق، على إنشاء طوق محكم حول الأهوار، تم تحديد البيئة نفسها كعدو يجب التغلب عليه في سياق مكافحة التمرد المشتعل فيها، فيما بعد يظهر الدستور العراقي لعام ٢٠٠٥ كيف تم محو التجربة الأهوارية في الأبادة والنزوح دون ذكرها عبر التهميش والذوبان في الهوية السياسية للجماعة الجديدة وعدم الأعتراف القانوني بوجود المكون أو الابادة الجماعية او الحقوق الثقافية.

 

خريطة لأهوار بلاد الرافدين عام 1994 مع المناطق الوردية التي تظهر المناطق المجففة.

بعد ما يقرب من تسعة أشهر من التحولات على مدار الساعة اعلنت الحكومة العراقية رسميا افتتاح نهر صدام (النهر الثالث) في ٧ ديسمبر ١٩٩٢ بحضور صدام حسين بنفسه محتفلًا به على أنه انتصار للبراعة التقنية العراقية، اعتبارا من أوائل عام ١٩٩٣ مضت الحكومة العراقية قدما في أعمال الصرف واسعة النطاق، والتي كان بناء النهر الثالث مجرد بداية لها لزيادة تجفيف الأهوار وحرمانها من مياه دجلة والفرات، تم الانتهاء من أربع قنوات تصريف رئيسية أخرى على الأقل في عامي ١٩٩٣ و١٩٩٤ هم نهر القادسية، ونهر أم المعارك، ونهر العز (الازدهار)، ونهر تاج المعارك، كما تم بناء العديد من السدود لمنع التدفق العكسي وتم رفع السدود أو بنائها بالإضافة إلى ذلك، تم تقسيم امتدادات هور الحَمّار والحويزة بشكل مكثف باستخدام السدود، بحلول بضعة سنوات اصبح اكبر نظام بيئي في غرب آسيا صحراء قاحلة.

نهر صدام أو النهر الثالث. طوابع عراقية ١٩٩٥

في ديسمبر ٢٠٠٢ نشرت هيومن رايتس ووتش ورقة، توضح بها بالتفصيل الجرائم الخطرة التي ارتكبت في العراق خلال الثمانينيات والتسعينيات وحثت على إنشاء محكمة دولية لتقديم مرتكبي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الأنسانية، بعد صدور أوامر خطة التدمير قتل عشرات الآلاف في الأهوار من خلال الإعدام بالإجراءات الموجزة والقصف العشوائي وقصف المناطق السكنية في البلدات والقرى، كانت هناك أيضا ادعاءات مستمرة بأن القوات المسلحة كانت تستخدم النابالم والغاز في هذه الهجمات، تم تعذيب واخفاء واغتصاب وسجن عشرات الآلاف من الآخرين، وأُعدم الشباب في الشوارع والمنازل والمستشفيات وتمت إساءة معاملة أقارب المشتبه بهم من أجل إجبارهم على الكشف عن مكان وجود المطلوبين من قبل السلطات، سممت المياه وحرقت المنازل كأعمال عقابية وفرض حصار أقتصادي على سكان الأهوار يمنعهم من التجارة والحصص التموينية الحكومية، في خضم ذلك تم طرد مايقارب نصف مليون انسان خارج الأهوار موطنهم التأريخي الى ايران ومناطق اخرى عبر تجفيفها بالسدود والقنوات في حين أصبح ما لا يقل عن ١٠٠ الف نازح داخليا في العراق، نقل فيما بعد جزء من السكان قسريا من قراهم الأصلية إلى مستوطنات على الأراضي الجافة على مشارف الأهوار وعلى طول الطرق السريعة الرئيسية لتسهيل سيطرة الحكومة عليها، ورافق هذه التدابير إصدار تشريعات تمييزية ضدهم وتدمر أرشيف الأهوار والذي بدوره كان يعاني من المنع الحكومي، ثم فرضت رقابة صارمة على المواد المطبوعة والمنشورة.
 

اكمال تنفيذ خطة التدمير والأسكان

لجنة حقوق الإنسان أظهرت التطورات اللاحقة وقالت ان "الحكومة العراقية نجحت في الواقع في تنفيذ خطة أكثر طموحا بكثير، وبلغت ذروتها في القضاء شبه الكامل على السكان الأصليين من خلال القوة الغاشمة والتدمير المنهجي لسبل عيشهم الاقتصادية وبيئتهم الطبيعية"، تبعت تلك الأحداث أوامر جديدة لمنع عودة السكان واكمال تنفيذ خطة التدمير، منها تدمير واسع النطاق ومتعمد للمنازل والممتلكات من خلال التجريف أو الحرق وقد تم ذلك بشكل منهجي بعد قصف القرى المستهدفة، وبالمثل، أضرمت النار في المحاصيل والنباتات الأخرى وقتلت الماشية عمدا وزرعت ألغام المياه أيضا في المياه الضحلة الباقية التي يستخدمها السكان المحليون لمنع التنقل والتجارة وعودة السكان وهي مسؤولة عن عشرات الوفيات والإصابات بين المدنيين، فضلا عن مقتل أعداد كبيرة من جاموس الماء والماشية التي يعتمد عليها الكثير من الاقتصاد المحلي، كما تم وضعهم على طول السدود لحمايتها من هجوم قوات المعارضة المسلحة.

ابلغ المقرر الخاص لهيومن رايتس ووتش عن استمرار استخدام نظام البطاقات التموينية والحرمان من العلاج كوسيلة لإنفاذ "الولاء" للسلطات أو كأداة للمعاقبة الجماعية لقبائل الأهوار التي تعتبر "معادية"، طلب العلاج الطبي في العيادات أو المستشفيات التي تديرها الدولة يعني المخاطرة بالاعتقال، حيثما أمكن تم تهريب الجرحى إلى إيران لتلقي العلاج لكن الرحلة كانت خطرة ولم ينج البعض منها، واجه المدنيون الذين مرضوا أو احتاجوا إلى علاج طبي للظروف العادية مشاكل مماثلة، خاصة بعد أن بدأت الحكومة في إزالة المخزونات الطبية من المستشفيات والعيادات من المدن الكبرى بالقرب من الأهوار (بما في ذلك البصرة والناصرية والعمارة) ونقلها شمالا، اما من ناحية تشديد الحصار الاقتصادي الذي فرضته الحكومة على المنطقة استلزم ذلك حظرا تاما على نقل المواد الغذائية والمنتجات النفطية المكررة والأدوية إلى الأهوار، أفيد بأن دوريات الجيش تقوم بتفتيش المسافرين إلى المنطقة وتقوم بالاستيلاء على أي طعام يعتبر أنه يتجاوز احتياجات الأسرة أو إتلافه، غالبا ما تم التعامل مع مهربي الأغذية الذين تم القبض عليهم بقسوة بما في ذلك الإعدام، وقال مقرر الأمم المتحدة الخاص مستشهدا بتقارير من لاجئي الأهوار الذين يصلون إلى إيران، إن السلطات حرمت العائلات التي رفضت الانتقال إلى الحكومة من إسكان الإمدادات الغذائية الشهرية الموزعة وفقا لنظام البطاقات التموينية الذي تم إدخاله بعد فرض عقوبات الأمم المتحدة، وقد أدى ذلك إلى تفاقم الوضع المزري بالفعل لأنه من الأساس بسبب عزلة الأهوار وعدم إمكانية الوصول إليها لم يتم تسجيل بعض الناس رسميا في السجلات الحكومية ولا يمتلكون بطاقات الهوية اللازمة للتسجيل لاستلام حصص الإعاشة.

في أبريل ١٩٩٢ وافقت الجمعية الوطنية العراقية على برنامج إسكان جديد وفقا لرئيس البرلمان العراقي آنذاك سعدي مهدي صالح، كانت نية الحكومة نقل عدة آلاف من سكان الأهوار إلى منازل شيدت على طول الطريق السريع بين البصرة والقرنة، ونقل قسم آخر من قبائل الأهوار خارج المدن واستبدال قبائل عربية بدوية في مناطقهم لأحداث تغيير ديموغرافي، برر خطة الأسكان بأنها "لتزودهم بالكهرباء والمياه النظيفة والمدارس والرعاية الطبية" و"جعلهم مواطنين صالحين" بحسب قوله، قال صالح لوسائل الإعلام إن الخطة التي وافق عليها البرلمان "لا تحدد [ما إذا كانت العائلات المراد نقلها] ستمنح خيار الانتقال أو البقاء، ما إذا قلنا إنها إلزامية أو اختيارية لا أهمية بالنسبة لهم"، لم يضيع التوازي بين الأكراد والاهواريين على رئيس البرلمان، في إشارة إلى الأكراد قال صالح لوكالة رويترز للأنباء: "في ذلك الوقت قمنا بإجلاء هؤلاء الأشخاص ووضعناهم في مجمعات وزودناهم بوسائل الراحة، ولكن لأسباب سياسية كان هناك خلاف ضدنا في الغرب فيما يتعلق بشعب الأهوار، يجب أن يساعدنا الغرب في نقل منازلهم وبناء المدارس لهم وتحسين ظروفهم الصحية بدلا من الانتقاد، محت أمريكا الهنود الحمر من على وجه الأرض ولم يرف لأحد جفن"، رافق برنامج إعادة التوطين القسري في الأهوار حملة تطهير عرقي شملت هجمات عشوائية بالمدفعية وطائرات الهليكوبتر الحربية والطائرات الثابتة الجناحين على القرى كانت مصحوبة باعتقال وإعدام المدنيين بمن فيهم زعماء القبائل وتدمير الممتلكات والماشية، وهدم قرى كاملة وكان من بين المستهدفين عائلات بأكملها رفضت إخلاء منازلهم، سرعان ما أعقبت موجات الاعتقالات تقارير عن عمليات إعدام جماعية بإجراءات موجزة، من بين التقارير التي تلقتها هيومن رايتس ووتش في ذلك الوقت حادثة واحدة تنطوي على إعدام حوالي ٢٥٠٠ شخص في أغسطس ١٩٩٢، تم اعتقال الضحايا من بينهم نساء وأطفال في الچبايش مع المقاتلين الاسرى، وفقا لشهادة حصلت عليها هيومن رايتس ووتش بما في ذلك شهادة أحد الناجين تم نقلهم إلى معسكر للجيش في شمال العراق حيث أعدموا على مدى حوالي أسبوعين.

شبّهت صحيفة واشنطن بوست عام ٢٠١٥ خطة التدمير على أنها شبيهة بتجارب سابقة حيث استعملت تكتيكات مكافحة التمرد الحديثة تلك نفسها في الأهوار من كافة المحاور التي تقطع الأقتصاد المحلي متسببة بمجاعة، قالت:"ما حدث في الأهوار لم يكن مجرد عمل حرب، إذن، ولكن استراتيجية للتنمية والتحسين الاجتماعي، ما أسماه صموئيل هنتنغتون «تحديث المسودة القسرية»، تدخلت الدولة مباشرة في البيئة البشرية باستخدام التقنيات المتقدمة لتغيير الطريقة التي يتفاعل بها السكان مع العالم الطبيعي بالقوة، يمكن سرد قصص مماثلة عن الاستخدامات البريطانية والألمانية لمعسكرات الاعتقالات و"حروب الجوع" في الجنوب الأفريقي، والقضاء السوفيتي على البدو الكازاخستانيين، والازالة الامريكية لأوراق الشجر من حقول الأرز الفيتنامية والمحاولات البرتغالية لهزيمة التمرد من خلال بناء سد في موزمبيق. تبنت دول العالم الثالث منذ ذلك الحين تكتيكات مماثلة، كما هو الحال في حملة "الفاصوليا والرصاص" في الإبادة الجماعية في غواتيمالا عام ١٩٨٢ في المرتفعات الوسطى".

الدعاية وخطابات صدام حسين

وسائل الإعلام جزء لا يتجزأ من العمليات الثقافية التي تنتج المعاني الاجتماعية، من خلال تحليل الخطابات التي يتم ايصالها من خلال الصحف يمكننا أن نتبع الطرق المختلفة لإنتاج الدعاية الحكومية تجاه سکان الأهوار، استعمل نظام حزب البعث جرائده الحزبية "الثورة" و"الجمهورية" و"القادسية" لأصدار سلسلة من المقالات المحرضة، وأعدم الصحفي ضرغام هاشم حينما اعترض عليهن بمقال آخر، اما في المقالة الرابعة تم تبرير الأبادة على أنها "مرحلة ضرورية لنهوض الأمة"، أفادت ورقة كتبها جون فوسيت وفيكتور تانر في أكتوبر ٢٠٠٢ بعنوان "النازحون داخليا في العراق"، نشرها معهد بروكينغز وكلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، أن وسائل الإعلام العراقية المملوكة للدولة سبقت الهجوم على الأهواريين بسلسلة من المقالات التي تسخر منهم على أنهم أشخاص بدائيون بوجوه قردة ليسو عراقيين حقيقيين. لم يعد صدام حسين سكان الأهوار بأنهم بالفعل عرب، اما من ناحية الطائفة فقد اعتبر الشيعة ذو ميول ايرانية بشكل عام، وفقا لطبيبه الشخصي قال صدام حسين الأمور التالية، كاسرًا الرواية التقليدية للبريطانيون والقوميون العرب: "شعب الأهوار ليسوا عربا حقيقيين، جاءوا من الهند مع جواميسهم السوداء لأنه قبل ١٢٥٠ عاما كان الخلفاء العباسيون بحاجة إلى العبيد، لكنهم لم يتطوروا منذ ذلك الحين، إنهم ليسوا مثل العراقيين الآخرين، وليس لديهم أخلاق إنهم يكذبون ويسرقون وليس لديهم فخر، سلوكهم ليس مثل سلوكنا، المرأة على وجه الخصوص غير أخلاقية تماما وخالية من المبادئ، هؤلاء الناس يعيشون حياة غير لائقة"، وورد في احدى المقالات "ان من عادة اهل الاهوار ضم ايديهم على صدورهم مع الانحناء، وذلك من طبيعة العجم وليس العرب" أكمل المقال وصفهم بالخطورة وتدني السلوك المتدني والمنحرف، أشير في موضع آخر في الجريدة ان:"شعب الأهوار اعتادوا على تربية الجاموس لدرجة أنه لا يمكن تمييزهم عنهم وأن لديهم طبيعة متدهورة جوهريًا"، وهي مقولة مشابهة لما وصف لورنس العرب به سكان الاهوار في خضم تشكيل الدولة العراقية.

من ضمن أحاديث صدام حسين في محضر جلسة الاستجواب ال١٦ لمحاكمته، قامت سيدة من الاهوار برواية تفاصيل المعاملة التي تعرضت لها عائلتها على أيدي الحكومة العراقية، فقالت إنهم لم يتبقَّ لهم شيء وإنهم اضطروا إلى مغادرة منازلهم بممتلكات قليلة، ضحك صدام وسأل: "ما الذي كانت تملكه من قبل؟ أعواد من القصب!"، في محضر جلسة الأستجواب ال١٩ قال إنه أراد تحديث طريقة حياة شعب الأهوار "حتى لا يعيشوا مثل الحيوانات"، وبأنها "خطوة في صالح العراق" و"لا توجد قيمة تاريخية للأهوار"، وفيما يتعلق باهتمام الحكومة العراقية بالأثر البيئي لعملية تجفيف الأهوار أشار إلى أن "الأميركيين لم يسمحوا للهنود الحمر بالعيش كما كانوا قبل الاستعمار".

من بين كل ضحايا صدام، لم يعوَّض الأهواريين عن تهجيرهم القسري وتدمير منازلهم فالحكومة أعتبرت منازل القصب دون وثائق رسمية تثبت ملكيتها وبالتالي فهي ليست بيوت، تبرز أجوبة صدام خلال استجوابه النظرة الشعبية التي تعتبر شعب الأهوار مجموعة خارج اطار الدولة، ان الوجود في دولة تبنى على العنف ضد مجتمعك كسبب لنهضة الأمة هو بحد ذاته عنف مستمر مع استمرارية وجودك، عندما تعتبر الأمة مجتمعك هو الفئة البدائية والعدائية والمحرومة والمعتبرة خارج التأريخ، هذه القوة التي تشكل البنية الهرمية الأجتماعية بهذه التراتيبة تجعل من تطور الدولة نتائج هيكلية أشد وأقسى فحينها ستكون العدو الثابت بأعتبارك التضحية الطبيعية في طريق التقدم المفترض، جذور العنصرية المؤسسية تعود بالبروز اينما خرجت أزمة لتظهر هشاشة الدولة وقمعها.

 

باشو مانيا

باشو مانيا هو المؤسس ومدير تحرير شبكة الأهواري، وهو صحفي أهواري مستقل يركز على الصراع العنصري والحقوق الثقافية في المنطقة.